فصل: تفسير الآية رقم (183):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (183):

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)}
{الذين قَالُواْ} نصب أو رفع على الذم، وجوز أن يكون في موضع جرّ على البدلية من نظيره المتقدم. والمراد من الموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذا القول: {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} أي أمرنا في التوراة وأوصانا {أَلاَّ نُؤْمِنَ} أي بأن لا نصدق ونعترف {لَرَسُولُ} يدعي الرسالة إلينا من قبل الله تعالى: {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ} وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من نِعَم وغيرها كما قاله غير واحد وقرئ {بِقُرْبَانٍ} بضمتين {تَأْكُلُهُ النار} أريد به نار بيضاء تنزل من السماء ولها دوّى، والمراد من أكل النار للقربان إحالتها له إلى طبعها بالإحراق، واستعماله في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل، وقد كان أمر إحراق النار للقربان إذا قبل شائعًا في زمن الأنبياء السالفين إلا أن دعوى أولئك اليهود هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء، ولما كان مرامهم من هذا الكلام الباطل عدم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا، ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان بزعمهم ردّ الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء القائلين تبكيتًا لهم وإظهارًا لكذبهم {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ} كثيرة العدد كبيرة المقدار مثل زكريا ويحيى وغيرهم {مِّن قَبْلِى بالبينات} أي المعجزات الواضحة والحجج الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم وحقية قولهم كما كنتم تقترحون عليهم وتطلبون منهم {وبالذى قُلْتُمْ} بعينه وهو القربان الذي تأكله النار {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي فما لكم لم تؤمنوا بهم حتى اجترأتم على قتلهم مع أنهم جاءوا بما قلتم مع معجزات أخر {إِن كُنتُمْ صادقين} أي فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه، والخطاب لمن في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وإن كان الفعل لأسلافهم لرضاهم به على ما مرّ غير مرة وإنما لم يقطع سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان المذكور لعلمه سبحانه بأن في الإتيان به مفسدة لهم، والمعجزات تابعة للمصالح، ونقل عن السدي أن هذا الشرط جاء في التوراة هكذا: من جاء يزعم أنه رسول الله تعالى فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان، والظاهر عدم ثبوت هذا الشرط أصلًا.

.تفسير الآية رقم (184):

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}
{فَإِن كَذَّبُوكَ} فيما جئتهم به.
{فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} جاءوا ثل ما جئت به، والجملة جواب للشرط لكن باعتبار لازمها الذي دل عليه المقام فإنه لتسليته صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود له، واقتصر مجاهد على الثاني كأنه قيل فإن كذبوك فلا تحزن وتسل، وجعل بعضهم الجواب محذوفًا وهذا تعليلًا له ومثله كثير في الكلام. وقال عصام الملة: لا حاجة إلى التأويل، والقول بالحذف إذ المعنى إن يكذبوك فتكذيبك تكذيب رسل من قبلك حيث أخبروا ببعثتك، وفي ذلك كمال توبيخهم وتوضيح صدقه صلى الله عليه وسلم وتسلية له ليس فوقها تسلية، ونظر فيه بأن التسلية على ما ذهب إليه الجمهور أتم إذ عليه تكون المشاركة بينه صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام في تكذيب المكذبين شفاهًا وصريحًا وعلى الثاني لا شركة إلا في التكذيب لكنه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم شفاهي وصريح، وبالنسبة إلى المرسلين ليس كذلك، ولا شك لذي ذوق أن الأول أبلغ في التسلية، وعليه يجوز في {مِنْ} أن تتعلق بكذب وأن تتعلق حذوف وقع صفة لرسل أي كائنة من قبلك. وعلى الثاني: يتعين الثاني ويشعر بالأول الذي عليه الجمهور وصف الرسل بقوله سبحانه: {جَاءوا بالبينات} أي المعجزات الواضحات الباهرات {والزبر} جمع زبور كالرسول والرسل وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته عنى حسنته قاله الزجاج، وقيل: الزبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته {والكتاب المنير} أي الموضح أو الواضح المستنير. أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه القرآن، ومعنى مجيء الرسل به مجيئهم بما اشتمل عليه من أصول الدين على ما يشير إليه قوله تعالى فيه: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين} [الشعراء: 196] على وجه، وعن قتادة أن المراد به الزبر والشيء يضاعف بالاعتبار وهو واحد، وقيل: المراد به التوراة والإنجيل والزبور وهو في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء هو والحكمة متعاطفين في عامة المواقع، ووجه إفراد الكتاب بناءًا على القول الأول ظاهر، ولعل وجه إفراده بناءًا على القول الثاني والثالث، وإن أريد منه الجنس الصادق بالواحد والمتعدد الرمز إلى أن الكتب السماوية وإن تعدّدت فهي من بعض الحيثيات كشيء واحد.
وقرأ ابن عامر وبالزبر بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات بأن يراد بها المعجزات غير الكتب لأن إعادة العامل تقتضي المغايرة ولولاها لجاز أن يكون من عطف الخاص على العام. ومن الغريب القول بأن المراد بالبينات الحروف باعتبار أسمائها كألف ولام، وبالزبر الحروف باعتبار مسمياتها ورسمها كأب، وبالكتاب الحروف المجتمعة المتلفظ بها كلمة وكلامًا. وادعى أهل هذا القول: أن لكل من ذلك معاني وأسرارًا لا يعقلها إلا العالمون فهم يبحثون عن الكلمة باعتبار لفظها وباعتبار كل حرف من حروفها المرسومة وباعتبار اسم كل حرف منها الذي هو عبارة عن ثلاثة حروف، ولا يخفى أن هذا اصطلاح لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه. والظاهر من تتبع الآثار الصحيحة أنه لم يثبت فيه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم شيء ودون إثبات ذلك الموت الأحمر.

.تفسير الآية رقم (185):

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} أي نازل بها لا محالة فكأنها ذائقته وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب وفيه تأكيد للتسلية له صلى الله عليه وسلم لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الهموم والأشجان الدنيوية. وفي الخبر «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكر في كثير إلا وقلله ولا في قليل إلا وكثره» وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارًا أخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله، وهذه القضية الكلية لا يمكن إجراؤها على عمومها لظاهر قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} [الزمر: 68] وإذا أريد بالنفس الذات كثرت المستثنيات جدًا، وهل تدخل الملائكة في هذا العموم؟ قولان، والجمهور على دخولهم. فعن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] قالت الملائكة: مات أهل الأرض فلما نزل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} قالت الملائكة: متنا، ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين. ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة، فإذا قَلت الرطوبة ضعفت الحرارة ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفئ الحرارة الغريزية ويحصل الموت، ومن هنا قالوا: إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة، وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على حرارة الكاف ورطوبة النون، ولعلهم يفرقون بين موت وموت، وقد استدل بالآية على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن لأن الذائق لابد أن يكون باقيًا حال حصول المذوق فتدبر، وقرأ اليزيدي {ذَائِقَةُ الموت} بالتنوين ونصب الموت على الأصل؛ وقرأ الأعمش {ذَائِقَةُ الموت} بطرح التنوين مع النصب كما في قوله:
فألفيته غير مستعتب ** ولا ذاكرًا لله إلا قليلًا

وعلى القراءات الثلاث {كُلُّ نَفْسٍ} مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم، و{ذَائِقَةُ} الخبر، وأنث على معنى {كُلٌّ} لأن {كُلُّ نَفْسٍ} نفوس ولو ذكر في غير القرآن على لفظ {كُلٌّ} جاز.
{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة {يَوْمُ القيامة} أي وقت قيامكم من القبور، فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة، وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعًا «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»، وقيل: النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا، ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة.
{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي بعد يومئذٍ عن نار جهنم، وأصل الزحزحة تكرير الزح، وهو الجذب بعجلة، وقد أريد هنا المعنى اللازم {وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} أي سعد ونجا قاله ابن عباس، وأصل الفوز الظفر بالبغية، وبعض الناس قدر له هنا متعلقًا أي فاز بالنجاة ونيل المراد، ويحتمل أنه حذف للعموم أي بكل ما يريد، وفي الخبر «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية» وأخرج أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» وذكر دخول الجنة بعد البعد عن النار لأنه لا يلزم من البعد عنها دخول الجنة كما هو ظاهر.
{وَمَا الحياة الدنيا} أي لذاتها وشهواتها وزينتها {إِلاَّ متاع الغرور} المتاع ما يتمتع به وينتفع به مما يباع ويشترى وقد شبهها سبحانه بذلك المتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه إشارة إلى غاية رداءتها عند من أمعن النظر فيها:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق

وعن قتادة هي متاع متروك أوشكت والله أن تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله تعالى إن استطعتم ولا قوة إلا بالله، وعن علي كرم الله تعالى وجهه هي لين مسها قاتل سمها، وقيل: الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور، وذكر بعضهم أن هذا التشبيه بالنسبة لمن آثرها على الآخرة، وأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ، وفي الخبر «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، والغرور مصدر أو جمع غار.

.تفسير الآية رقم (186):

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}
{لَتُبْلَوُنَّ} جواب قسم محذوف أي والله لتختبرن، والمراد لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأفعال الحسنة ولا يصح حمل الابتلاء على حقيقته لأنه محال على علام الغيوب كما مر، والخطاب للمؤمنين أو لهم معه صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبرهم سبحانه بما سيقع ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم البلاء مما يزيد في اللأواء والاستعداد للكرب مما يهون الخطب ولتحقيق معنى الابتلاء لهذا التهوين أتى بالتأكيد، وقد يقال: أتى به لتحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعداد، وعلى أي وجه فالجملة مسوقة لتسلية أولياء الله تعالى عما سيلقونه من جهة أعدائه سبحانه إثر تسليتهم عما وقع منهم، وقيل: إنما سيقت لبيان أن الدنيا دار محنة وابتلاء، وأنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا إثر بيان أنها متاع الغرور، ولعل الأول أولى كما لا يخفى، والواو المضمومة ضمير الرفع ولام الكلمة محذوفة لعلة تصريفية، وإنما حركت هذه الواو دفعًا للثقل الحاصل من التقاء الساكنين وكان ذلك بالضم ليدل على المحذوف في الجملة ولم تقلب الواو ألفًا مع تحركها وانفتاح ما قبلها لعروض ذلك.
{فِى أموالكم} بالفرائض فيها والجوائح، واقتصر بعض على الثاني مدعيًا أن الأول الممثل في كلامهم بالإنفاق المأمور به في سبيل الله تعالى، والزكاة لا يليق نظمه في سلك الابتلاء لما أنه من باب الإضعاف لا من قبيل الإتلاف، وفيه نظر تقدم في البقرة الإشارة إليه، وعن الحسن الاقتصار على الأول. والأولى القول بالعموم {وَ} في {مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} بالقتل والجراح والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد، وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف. أو لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس.
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى. والتعبير عنهم بذلك إما للإشعار دار الشقاق والإيذان بأن {بعض} ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب. وإما للإشارة إلى عظم صدور ذلك المسموع منهم. وشدة وقعه على الأسماع حيث إنه كلام صدر ممن لا يتوقع صدوره منه لوجود زاجر عنه معه وهو إيتاؤه الكتاب كما قيل: والتصريح بالقبلية إما لتأكيد الإشعار وتقوية المدار وإما للمبالغة في أمر الزاجر عن صدور ذلك المسموع من أولئك المسمعين {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} وهم كفار العرب {أَذًى كَثِيرًا} كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والافتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والتشبيب بنساء المؤمنين.
{وَأَن تَصْبِرُواْ} على تلك الشدائد عند ورودها {وَتَتَّقُواْ} أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه {فَإِنَّ ذلك} إشارة إلى المذكور ضمنًا من الصبر والتقوى. وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحًا على ما قيل، أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما. وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين اعتناءًا بشأن المخاطب به، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظة خصوصية أحوال المخاطبين {مِنْ عَزْمِ الامور} أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر عنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمر كما نقله الراغب والأشهر عزمت على الأمر، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرئ {فَإِذَا عَزَمْتَ} [آل عمران: 159] بضم التاء وهو حينئذٍ عنى الإرادة والإيجاب، ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة، وقولهم: عزمات الله تعالى كما نقله الأزهري ومن هذا الباب قول الفقهاء: ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة، والجملة تعليل لجواب الشرط واقع موقعه كأنه قيل: وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فقد أحسنتم أو نحوهما فإن ذلك إلخ، وجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذٍ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه، وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر جلس فيه عبد الله بن أبيّ وذلك قبل أن يسلم عبد الله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشي المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، وقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبيّ قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية.
وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون ومنهم المشركون، ومنهم اليهود فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشدّ الأذى فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ} الآية. وفي رواية أخرى عن الزهري: «أن كعبًا هذا كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب بنساء المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم: من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله فخرج هو ورضيعه أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي» ثم إنه سبحانه بين بعض أذيات أهل الكتاب بقوله عز قائلًا: